الوعد الصادق- قواعد جديدة للصراع الإيراني الإسرائيلي постоянный

المؤلف: فايد أبو شمالة11.02.2025
الوعد الصادق- قواعد جديدة للصراع الإيراني الإسرائيلي постоянный

من الأمور الجديرة بالانتباه، الكيفية التي تعامل بها الناطق الرسمي باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" مع عملية "الوعد الصادق" الإيرانية في سياق خطابه الأخير، وذلك بمناسبة مرور مئتي يوم على انطلاق معركة "طوفان الأقصى". يكمن اللافت في طريقة تناوله لهذه العملية، والمكانة التي منحها إياها، والمساحة التي خصصها لها ضمن خطابه المطول الذي امتد لعشرين دقيقة، والذي كان حافلاً بالرسائل المتعددة والموجهة نحو مختلف الجهات.

لقد أحسن "أبو عبيدة" اختيار موضع العملية في نهاية خطابه، مانحاً إياها الحيز الذي تستحقه تماماً، دون إفراط أو تقصير. فقد نظر إليها كجزء لا يتجزأ من معركة أوسع نطاقاً تدور رحاها في المنطقة مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي ينبغي لها أن تتسع وتتعاظم بشكل ملحوظ.

دعونا نتمعن ملياً في النص الذي تلاه "أبو عبيدة": "لقد شهد العالم بأسره كيف دبّ الرعب والهلع في أوصال الكيان الصهيوني قبل وأثناء وبعد عملية الوعد الصادق، والتي جاءت كرد فعل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية على العدوان الصهيوني الغاشم الذي طالها."

هذا الرد، بحجمه ودلالته وطبيعته، أرسى دعائم قواعد جديدة، وثبّت معادلات بالغة الأهمية، وأحدث ارتباكاً شديداً في حسابات العدو ومن يقف خلفه ويدعمه. لقد رأينا كيف استدعى الكيان حلفاءه من أقاصي الأرض لكي يستميتوا في الدفاع عنه، ثم خرج منتشياً بما حققه من قدرات دفاعية، بعد أن كان يتباهى بقدراته الهجومية. إنه يحاول جاهداً إخفاء الآثار والنتائج الحقيقية لهذه العملية، ولكننا نراقب عن كثب وندرك تمام الإدراك مدى تأثير هذا الرد وهذه الضربات الموجعة. إنها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الزمن الذي كان فيه هذا العدو يعيث فساداً دون حسيب أو رقيب، أو يعتدي دون رد أو عقاب، قد ولّى وانقضى إلى غير رجعة".

قواعد جديدة

قد تكون أهم جملة وردت في هذا النص هي أن الرد الإيراني "وضع قواعد جديدة، وأرسى معادلات مهمة، وأربك حسابات العدو ومن وراءه". فهل هناك تعليق أبلغ من هذا على الهجوم الذي شنته الطائرات المسيرة والصواريخ على الكيان في تلك الليلة الحالكة التي لم يهنأ فيها الاحتلال بالنوم، ولا خمس دول أخرى على الأقل، وعلى رأسها أميركا وبريطانيا اللتان سارعتا إلى نجدته واعتراض المسيرات والصواريخ الموجهة إليه؟ لقد كان المشهد أشبه بلوحة سريالية كشفت عن مدى هشاشة هذا الاحتلال، وعن مدى السخافة والسذاجة والتملق الذي أظهره أولئك الذين هبوا للدفاع عنه.

لا نحتاج إلى امتلاك خبرة عسكرية واسعة لكي نجزم بثقة بأن كل تلك المسيرات، بل وحتى صواريخ الجيل الأول التي استغرقت ساعات طويلة من الطيران من قواعد انطلاقها في إيران، لم تكن تستهدف أهدافاً عسكرية محددة بالضرورة. بل كانت جزءاً من إعلان إيراني رسمي اتخذ شكل عرض عسكري جوي، مفاده أن إيران قد تجاوزت مرحلة الصبر الإستراتيجي، وانتقلت إلى مرحلة الرد المباشر، وهو ما صرحت به إيران بكل وضوح بعد ذلك، كما أشار إليه "أبو عبيدة" أيضاً.

إذاً، لم تكن العملية ذات طبيعة عسكرية تهدف إلى التدمير، ولم يكن هناك ما يستدعي تدخل كل هذه الدول لاعتراض هذه القذائف. ولا ينبغي لنا أن نفترض أن أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى قد سقطت نتيجة إطلاق مئات المسيرات والصواريخ. لقد كانت رسالة سياسية وإعلامية مفادها أن إيران، ولأول مرة، تهاجم الكيان الإسرائيلي بشكل مباشر من الأراضي الإيرانية ودون الحاجة إلى وسطاء.

ولعل هذا هو ما دفع الاحتلال الصهيوني، ومن خلفه الإدارة الأميركية، إلى تجرع مرارة الصبر، واستيعاب هذه العملية، والمسارعة إلى احتواء الموقف، وعدم الانجرار نحو ردود فعل جديدة. لقد أصبحوا على قناعة تامة بأن ذلك سيؤدي إلى فتح جبهة جديدة لن تكون بأي حال من الأحوال مماثلة للجبهات الخمس التي سبقتها، لا من حيث نوعية النيران المستخدمة فيها، ولا من حيث تأثيرها المدمر على المنطقة بأكملها، وما يمكن أن تتسبب به من أضرار جسيمة للاقتصاد العالمي؛ نتيجة فقدان الأمن والاستقرار لفترة ليست بالقصيرة. هذا فضلاً عن احتمالات حدوث المزيد من التوسع، إذا ما تدخلت أطراف أخرى مثل روسيا والصين لسبب أو لآخر، حيث إن مصالح أطراف عديدة سوف تتضرر في حال وقوع صدام مباشر بين إيران وإسرائيل.

هل كانت مسرحيّة؟

هذا الرأي يتبناه قطاع لا يستهان به من الجماهير العربية، بمن فيهم أصحاب المواقف الثابتة تجاه إيران وسياساتها الخارجية؛ وذلك لأسباب متنوعة، سواء كانت طائفية أو سياسية، كما هو الحال في سوريا واليمن والعراق ولبنان. ولكن من بينهم أيضاً من ينظر إلى الأمور بموضوعية أكبر، ويقرأ النتائج ويقارنها بما فعله الاحتلال ضد القنصلية الإيرانية في دمشق، وما أسفر عنه ذلك من مقتل سبعة من كبار قادة فيلق القدس التابعين للحرس الثوري، وهم من الشخصيات المؤثرة بشكل كبير في جبهات المواجهة مع الاحتلال، والتي لإيران باع طويل فيها. وتشمل هذه الجبهات، من بين ما تشمل، الجبهة اللبنانية الساخنة جداً منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى". هذه خسائر بشرية فادحة، إذا ما قورنت بنتائج الضربة الإيرانية التي لم يثبت حتى الآن أن إسرائيلياً واحداً قد لقي حتفه فيها، على الرغم من العدد الهائل من القذائف والمسيرات التي أطلقت. لذا، فإنه من السهل جداً القول بأن ما فعلته إيران لم يكن سوى مسرحية هزلية، أو عملية فاشلة وغير مجدية. وقد صدرت العديد من التعليقات التي تحمل هذه المعاني، والتي قللت من شأن الضربة.

بيد أن بعض الأصوات كانت أكثر إنصافاً وموضوعية، ونظرت إلى الرد الإيراني باعتباره يحمل أهدافاً أخرى غير عسكرية، وأنه تم التوصل إلى تفاهم ما مع الإدارة الأميركية بشأن هذه الضربة وحجمها، وذلك بهدف السيطرة على جماح نتنياهو وحكومته المتطرفة التي تفلت من سيطرة وتوجيه إدارة بايدن، وتسعى إلى توسيع دائرة التوتر في المنطقة؛ لأسباب شخصية أو حزبية. هؤلاء يقرون بأن الضربة قد حققت هذا الهدف بالفعل، ولكنهم يتفقون مع سابقيهم في أن إيران تستخدم أدواتها الخارجية لتحقيق مصالحها الخاصة، وتحاول جاهدة أن تبقى بمنأى عن الدخول في صدام مفتوح وواسع النطاق مع الاحتلال ومن يقفون خلفه، وعلى رأسهم أميركا، وذلك على الرغم من كل الخطابات النارية والتصريحات الرنانة الصادرة من أعلى هرم السلطة الإيرانية، سواء من المرشد الأعلى أو رئيس الجمهورية.

ومع ذلك، هناك أمر يستدعي الانتباه في خطاب "أبو عبيدة"، وهو قوله: "إننا راقبنا وندرك جيداً مدى تأثير هذا الرد وهذه الضربات، إذ تؤكد أنه مضى الزمن الذي يعربد فيه هذا العدو دون حسيب أو يعتدي دون رد أو عقاب".

هذه العبارة ليست محايدة تماماً، إذا ما أخذنا في الاعتبار علاقة التحالف العسكري القائمة بين كتائب القسام والحرس الثوري الإيراني، ومع ذلك فإنها تتسم بتوصيف دقيق لما حدث ونتائجه، دون الإسهاب في كيل المديح لإيران، أو المبالغة في تصوير حجم الرد الإيراني المسمى بعملية الوعد الصادق.

يحمل هذا النص دلالة لا ينبغي تجاهلها، وهي أن كتائب القسام لا ترفع سقف توقعاتها تجاه إيران بشكل مبالغ فيه، وتدرك تمام الإدراك أن حسابات الدول تختلف عن حسابات الجماعات والأحزاب والمنظمات المسلحة. هذه مسألة تثير تساؤلاً كبيراً يصعب الإجابة عنه: هل ترغب إيران حقاً في تصعيد المواجهة المباشرة مع الاحتلال؟ وهل يتوفر لديها ما يكفي من المبررات التي تجعل مثل هذا التصعيد مقبولاً لدى المجتمع الدولي -وليس بالضرورة حلفاء الاحتلال- بحيث لا يترتب على ذلك مصاعب حقيقية جديدة تعطل برامج إيران الكبرى كدولة ذات نفوذ هائل في منطقة الشرق الأوسط، وذات مشروع نووي يوشك على أن يرى النور؟

القاعدة الجوية

على الرغم من كل ما سبق، فإن هناك زاوية أخرى تستحق التوثيق في الرد الإيراني، والتي تحمل رسائل من نوع آخر. هذه الزاوية تناولها الخبراء العسكريون، كما تحدث عنها الإسرائيليون والإيرانيون على حد سواء. فقد ثبت أن عدداً قليلاً من الصواريخ الإيرانية في تلك الليلة قد تمكن من اختراق جميع منظومات الدفاع الجوي، سواء الإسرائيلية أو تلك التي قدمتها الدول الكبرى كدعم ومساندة. وقد وصل ما لا يقل عن ثلاثة صواريخ فرط صوتية إلى قاعدة نيفاتيم الجوية الواقعة في جنوب إسرائيل.

أظهرت صور الأقمار الصناعية منخفضة الدقة ما يبدو أنها منطقة تأثرت بشكل مباشر بضربة صاروخية إيرانية على تلك القاعدة التي تضم الطائرات المقاتلة من طراز "إف -35"، وهي الطائرات التي نفذت الهجوم على مقر القنصلية الإيرانية، وفقاً لما تردد من معلومات لم يتم التأكد من صحتها من مصادر موثوقة، ولم تقر بها إسرائيل، التي اعترفت فقط بأن عدة صواريخ قد أصابت القاعدة. أما المصادر الإيرانية، فقد ذكرت أن ما بين 5 إلى 7 صواريخ قد أصابت القاعدة، فيما أظهرت صور أخرى أن مدارج الطائرات قد تعرضت لأضرار.

قلل الإسرائيليون من أهمية ما حدث في هذه القاعدة، وهو أمر منطقي ومتوقع، ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أن مجرد سقوط صاروخ واحد داخل القاعدة يعتبر اختراقاً مذهلاً لأحدث أنواع التكنولوجيا الدفاعية التي تتمتع بها هذه القاعدة ويمتلكها الاحتلال وداعموه.

يعتقد بعض الخبراء العسكريين أن إيران لم تكن لديها الرغبة في إحداث تدمير كبير لهذا الهدف الإستراتيجي الحيوي، وإلا لكانت أطلقت ما لا يقل عن ثلاثين صاروخاً باتجاهه. لكن هدفها كان اختبار قدراتها الصاروخية المتجددة والمتطورة، وقدرات الأنظمة الدفاعية على إسقاط هذه الصواريخ.

إذا كان كل هذا دقيقاً وصحيحاً، فإن هدفاً إيرانياً إستراتيجياً وهاماً جداً قد تحقق في تلك الليلة. فلن يكون من المعقول بعد اليوم أن يقوم الاحتلال باستخدام طائراته لشن غارات على أهداف إيرانية جديدة، لأنه بات على يقين بأن تفوقه الجوي، الذي حسم من خلاله جميع حروبه السابقة، قد أصبح هدفاً سهلاً ومنشوداً لنوع جديد ودقيق وسريع الوصول من الصواريخ الإيرانية التي تم تجربتها فعلياً، وقد نجحت في الوصول إلى أهدافها خلال عملية الوعد الصادق.

تبدأ الصراعات الكبرى بين الدول القوية بتبادل التصريحات الحادة وتشكيل الرأي العام واستخدام القوة الناعمة، ثم تتطور إلى معارك متنوعة ذات طبيعة خاصة من أجل اختبار القوة ومعرفة حدود قدرات الأطراف المتنازعة. وفي لحظات معينة، يحدث الانفجار وتلتهب جميع جبهات القتال، حتى يتمكن أحد الطرفين من حسم المعركة لصالحه. وإن لم ينجح أي من الطرفين في تحقيق ذلك، فقد يمتد الصراع لفترات طويلة، ما لم يتوصل الطرفان إلى صيغة تكفل لهما نوعاً من التعايش والمراهنة على عامل الزمن وتغير موازين القوى، أو توفر ظروفاً أفضل. ويبدو أن إيران وإسرائيل تفضلان هذه الحالة في الوقت الراهن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة